نسمع كل يوم تفاصيل من كل الأنواع حول فيروس الكورونا، لكن لا أحد يحكي عما يمكن أن نفعله بدءا من اليوم، بعد ما يمر هذا الوباء، إذ على الأغلب نبقى ننتظر من الحكومات أن تحل مشكلات وأزمات غير قادرة على حلها… هنا تدخل الرؤية (وليس الأهداف) كسلاح في أيدي الناس يقوم كلٌّ منا بمسؤوليته نحو ذاته ومن حوله؛ مسؤولية سلبتنا منها المؤسسات والمهنيون والخبراء عبر فيروسات من شتى الأنواع، كان وما زال أخطرها فيروسات العقل والإدراك.
بدأنا مجاورتنا بسؤالين: – ماذا في رأيك يميز الحكمة؟ كيف تفسر أن قدرة الدول التي ندعوها بمتقدمة كانت أضعف في تعاملها مع كورونا؟ بالإضافة إلى أننا تحدثنا ببعض الإسهاب عن أمرين (تطرقنا لهما قليلا في لقاءاتنا السابقة): عن رياضيات القبيلة الأورو-أمريكية كأخطر فيروس على صعيد العقل، وعن الرؤية التي يعمل وفقها المعلم منير منذ سنين.
فيروسات “كورونا” على صعيد العقول (والإدراك) منذ خمسة قرون لا نعيها بعد، لكنها الفيروس الأم الذي ولّد معظم ما تبعه من فيروسات على أصعدة أخرى. تمثّل فيروس العقول بكلمات لها إيحاءات تبدو تقدمية لكن ليس لها دلالات في الحياة. سأختار كلمتين كبداية في حديثي (ومن ثم على كل شخص أن يتفكر بكلمات كانت بمثابة فيروسات نخرت فكره وكان لها عواقب سيئة): كلمة “فاشل” (التي تعني عكس ناجح)، وكلمة “متخلّف” (التي تعني عكس متقدم)… من أغرب ما لاحظته أن معظم الكلمات الفيروسية ترتبط ببعد رياضي (أعني الرياضيات التي نمت ضمن القبيلة الأورو-أمريكية والتي في خبرتي تشكل فيروسا لعله الأخطر والأعمق).
فيروسات “كورونا” على صعيد العقول (والإدراك) منذ خمسة قرون لا نعيها بعد، لكنها الفيروس الأم الذي ولّد معظم ما تبعه من فيروسات على أصعدة أخرى. تمثّل فيروس العقول بكلمات لها إيحاءات تبدو تقدمية لكن ليس لها دلالات في الحياة. سأختار كلمتين كبداية في حديثي (ومن ثم على كل شخص أن يتفكر بكلمات كانت بمثابة فيروسات نخرت فكره وكان لها عواقب سيئة): كلمة “فاشل” (التي تعني عكس ناجح)، وكلمة “متخلّف” (التي تعني عكس متقدم)… من أغرب ما لاحظته أن معظم الكلمات الفيروسية ترتبط ببعد رياضي (أعني الرياضيات التي نمت ضمن القبيلة الأورو-أمريكية والتي في خبرتي تشكل فيروسا لعله الأخطر والأعمق).
الأيام تُكمّل بعضها ولكن لا بد من أن نقف كل فترة لنتأمل بما نعيش من تجارب وماذا نتعلم منها.
عام ٢٠١٩ كان عام الزراعة بإمتياز، تعلمنا طرق الزراعة الطبيعية وشاركنا تجربتنا مع طلاب مركز سجال. انغمسنا بالصراحة والنتائج والتنافر المعرفي وحكم الذات. وكان لأيامنا مع المجاورات حصة كبيرة، وذلك مع مجاورة ما بين الصحة والعافية بِصُحبة المعلم منير فاشة في دهشور-مصر، ومجاورة التعلم وفق أفق حضاري في دبين-الأردن حيث اجتمع ٢٨ متجاور ومتجاورة من ٩ دول عربية.
“المعرفة إذا لم تتنوَّع مع الأنفاس لا يُعوَّل عليها” هكذا قال الشيخ الأكبر “ابن عربي”، وهكذا كان بجلساتنا مع مليحة مسلماني من فلسطين التي شاركتنا حكايتها مع ابن عربي في شهر رمضان المبارك.
حاولنا هذ العام ان نشكل أشياء بأيدينا قدر المستطاع، فشاركنا مع “هاند أوفر” من مصر بالترتيب لتدريب البناء باستخدام المواد الطبيعية. وذهبنا إلى الهند للإقامة في مزرعة المزارع الهندي الراحل Bhaskar Save الذي آمن بدورة الحياة وبأن ما يُزرع يجب أن يعود بعضاً منه للأرض. واستضفنا أصدقاء لنا من الهند والتشيك ليشاركونا جزء من معارفهم الحياتية.
شاركنا بلقاء “ايكوفرستيز” بالمكسيك والذي يضم مجموعة من الحالمين من مختلف بقاع العالم يعملون على خلق عالم من التعلم المرتبط بالطبيعة. وعلى مدى أشهر تجاورنا مع مجموعات مختلفة بالأردن بدعوة من الملتقى التربوي العربي لنتناقش حول الحكمة والعافية والمجاورات في حياتنا، وكان ختام السنة بلقاء حول المجاورة على ضفاف واحدة من معجزات هذا الكون وأخفض بقعة على سطح الأرض “البحر الميت”.
تعلمنا الكثير هذا العام وأجمل ما في رحلة التعلم على مدى ال ٣٦٥ يوماً أنه أعدنا التواصل مع الأرض وما ينتج عنها من نسيج مع أنفسنا والناس من حولنا. بقربنا إلى مصدر عيشتنا من غذاء شكلنا معناً أعمق للإنتاج والاستهلاك وباللذة التي ترافقهما.
كل الشكر لمن رافقنا رحلة التعلم لهذا العام… والمعرفة بدها تغميس:)
من عمق تجربة النساء الكرديات كانت تغميستنا بحكم الذات. من حلول نابعة من تجربة ذاتية بخلق قرية للنساء بعيدة عن العنف واسترجاع معرفة حية للعيش بعافية عن طريق زراعة غذاءهن وبناء بيوتهن من مواد طبيعية ليكون لهن السيادة في ادارة حياتهن.
بدأنا جلستنا بسؤال، كيف تنعكس تجربة مقاومة النساء الأكراد في حياتنا عن طريق مشاركتنا لقصص من تجاربنا الشخصية. بدأ ايقاع الجلسة بشكل متناغم مع موضوع التغميسة، وقت للتأمل والتفكير بين كل مشاركة وأخرى مع وجود صعوبة عند البعض باسترجاع قصص شخصية، قد يكون السبب مدى تأثير الحياة المدنية والرأسمالية التي نعيش من عدم تمكننا من رؤية حياتنا كقصص لنتعلم منها ونرويها وأيضاً لوضعنا في عزلة وبُعد عن الطبيعة.
روينا قصص مُلهمة لندرك كم ان عالمنا الحالي مُمَزق لعلاقاتنا الاجتماعية ولكن أيضاً لندرك بأن الأشياء الجميلة تأتي عن طريق قصص بسيطة وذكريات جميلة. عقولونا مُحتلة ومُتلاعب فيها وكل واقع يفرض علينا حلول مختلفة وعند الحاجة لا بد إلا أن نسترجع ما نعرفه، عقولنا مثل الإسفنج وهذه المعرفة الحية موجودة في مكان ما، لذلك نجد راحة باستخدام كلمة “نستعيدها” لأنها موجودة ولكنها مُغيبة.
هذه التجربة بالمقاومة هي طريقة أوجدتها النساء من واقعهن، ايجاد ملاذ آمن من بطش داعش والصورة النمطية المفروضة على النساء، أشكال المقاومة تختلف ولكن لا نستطيع إلا أن نرى ما يحدث وبالقرب منا إلا مصدر أمل وبأن ما نحتاج من حلول موجود لدينا ولسنا بحاجة لأي حلول مستوردة.
من هذه التغميسة خرجنا بمجموعة من الأسئلة والكلمات لنتعمق بها. من يملك الأرض؟ ومن له القدرة بأن يتكلم عنها؟ هل نتكلم عن الأرض (التراب)؟ أو الأرض الحدود؟ كيف لنا أن نعيش حياتنا بعافية معتمدين فيها على مصادرنا بعيداً عن الحياة الرأسمالية؟ ما الكلمات التي يجب أن نستخدمها لنتكلم عن واقعنا؟ وهل هناك ضرورة لنلطف معنى الكلمات أم إننا بحاجنا لنوضح معانيها؟
كل الشكر مؤسسة محمد وماهرة أبو غزالة على هذا التعاون وكل الشكر لمن شاركنا القصص والتجارب.
لم أعش تجربة حيّة مثل مجاورة الأفق الحضاري التي حصلت في دبين في الفترة ما بين 20-24 أيلول 2019منذ مدة.
المجاورة كانت حلم خطر على بالي قبل حوالي عام عندما كنت في لقاء ايكوفرستيز في الهند في منطقةUdaipurوفيSwaraj بالتحديد.
في ذلك اللقاء أدركت كم أن العالم لا يعرف سوى القليل عن حياتنا، وقصصنا، وصراعاتنا، وأحلامنا، وأكلاتنا والقمع الممارس ضدنا والذي نمارسه على الآخرين. قصتنا غير مروية، وكم شعرت بالحاجة للتعرف على أشخاص أكثر من منطقتنا العربية لأشاركهم ماذا أعيش، كنت أبحث عنهم وأشعر أيضاً بأنهم كانوا يبحثون عن آخرين ليشاركوا القصص والأفكار والرؤى.
كنا 28 شخصاً من 9 دول عربية، من اليمن والسودان والصومال وسوريا والعراق وفلسطين والأردن ولبنان ومصر، نحمل قصص أعراق مختلفة وثقافات متعددة وأديان مألوفة وغير مألوفة وأسئلة لا تنتهي أبعد من النقطة التي أعيش فيها وأوسع من الأفكار المتكونة في عقلي.
كانت زينة هذه المجاورة أطفالها؛ صوفي وأيفا بالإضافة إلى الدجاجات والأشجار والخرفان والبط والحمير وما هو غير مرئي في التربة وما تحتها.
بدأنا مجاورتنا بجلسة نتعرف فيها على بعض عن طريق قصصنا الشخصية، خالية من أية تعريفات أكاديمية ومؤسساتية، امتدت الجلسة إلى جلستين لنبدأ بغزل نسيج من الحاضر وبحضور الجميع وبما يحمل كل شخص من تاريخ.
كنا نمشي صباحاً وعند غروب الشمس، نحضر فطورنا بخلطات الفول المختلفة؛ المصرية والسودانية والفلسطينية، نرقص ونحرك أجسادنا لنبدأ جلساتنا.
عشنا الأفق الحضاري من دون أن نتحدث عنه مباشرة، وإنما فككناه إلى نقاشات بالتنمية والاحتلال/ والرؤيا والبوصلة/ والنُدرة والوفرة/ والكرم والضيافة وبين كل هذه المواضيع كنا نخلق الوقت لنغني بلهجاتنا المختلفة ونرقص على أنغام متنوعة لنوجد معناً أكبر للتغيير الغير المخطط عن طريق “تثقيف ذواتنا”.
هذا ما كنا نفعله “نثقف ذواتنا” بطريقة بسيطة وفيها كمية كبيرة من الفرح والانبساط والأمل. كيف أروي قصتي وأصغي لغيري، أنسج رحلتي بالتعلم ضمن أفاق التنوع الذي أعيش حالياً.
في اليوم الثالث بالتحديد، شعرت بأني في مكان مختلف في العالم وأعيش حالة من العفوية المخلوطة بالتعلم والصدق. في الصباح تحدثنا عن الرؤيا والبوصلة وأين أنا من الواقع الذي أعيش وكيف لقناعاتي أن تتشكل من تجاربي التي تشكل رؤيتي وتحدد بوصلتي للتعلم. وأنا بالجلسة بدأت بكتابة تسلسل حياتي وكيف تشكلت قناعاتي من تجاربي الشخصية وكيف كنت مثل الببغاء “حافظ ومش فاهم”، والأصعب بأني كنت أدافع عن معرفة تربيت عليها من دون دراية بقدرتي على أن أكون مصدر معرفة وفهم. أدركت بأهمية أن أكون مرنة ولكن من دون أن أُكْسَر، وكيف أرى التنوع وأتنوع في طريقة تفكيري حسب السياق الذي أعيش.
بعد الجلسة كان في المساحة من يقوم بتجديل أوراق الموز مع سناء، استخدامنا لأصابعنا لننسج ما هو جميل ومتوفر من حولنا بالطبيعة أضاف الكثير للعلاقات التي نقوم بنسجها معاً، وفي الطرف الآخر من الغرفة كان من يرقص أو يتحدث ويتناقش، مساحة كلها طاقة وحياة. ثم ذهبنا في جولتنا المسائية للتأمل بصحبة غروب الشمس لينتهي اليوم بليلة رقص مجنونة معجونة بأغان مصرية وسودانية وفلسطينية وأردنية وعراقية وبحفلة شواء من دجاجات المزرعة بخلطة حمادة السحرية، كان يوم ولا أروع ولا أصدق.
في هذه المجاورة تأملت بمعناها وأشكالها وأعطتني الفرصة لأفكر بالمجاورات التي تتخطى الحدود الجغرافية، شعرت بأن كلاً منا كان يعيش حالة مجاورة في المكان الذي يقيم فيه، كانت أرواحنا في حالة تجاور وهذا اللقاء سمح للأرواح بأن تتلاقى لمن استطاع أن يعبر الحدود السياسية في حين أن هذه الحدود منعت آخرين من أن يكونوا حاضرينمعنا بجسدهم.
تناقشنا بالسابق كثيراً حول أشكال المجاورات المنظمة وأشعر حالياً بارتياح لاستخدام كلمة “تدبير المجاورة”، معنى الاسم تَّدْبِيرُ: حسن القيام على الشيء والتَّدْبِيرُ نِصْفُ الْمَعيشَةِ ومن مرادفات كلمة تدبير: فَطِنَة، كِفَايَة، حُنْكَة، حِكْمَة.
مجاورتنا كانت غنية ودسمة وخفيفة في نفس الوقت، خفيفة لأن مكوناتها لم تحتوي على ما هو اصطناعي أو مُعدل جينياً ولم تحتاج لأية وسائل مساعدة لهضم المعرفة، كل ما كان موجود مما هو متاح ومتوفر لدينا، مغذي ويسهل على الإنسان هضمه، يتسلل إلى جسمنا ويغديه لحاضره ومستقبله ويشفيه من سمومه المتراكمة.