تنويه: كتب هذا المقال بشهر حزيران من عام ٢٠٢٠
٢٠٠١ كان عمري ٢١ سنة عندما تم تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وأيضاً أتذكر شعور الخوف وعدم الفهم لما يحدث.
٢٠٠٣ كان عمري ٢٣ سنة، حرب الخليج الثالثة، احتلال العراق وسقوط بغداد، مشاعري بالخوف وعدم الفهم تضاعفت.
٢٠١١ كان عمر ي ٣١ سنة، بداية الربيع العربي ومولد الأمل من ميدان التحرير، الأمل انعجن بالخوف، تسارع بالأحداث، وما زلت لا أفهم شيئاً.
٢٠١١ بداية الثورة السورية التي انقلبت إلى حرب تدمير وتخريب وتهجير، أيضاً مشاعر الخوف وعدم الفهم كانا مسيطران.
ولكن قبل هذه السنوات وخلالها وبعدها عاشت هذه الأرض عشرات بل مئات الأحداث التي توارثناها.
من شبه المستحيل أن تهدأ المنطقة التي أعيش فيها؛ حروب تحت شعار الديموقراطية، استعمار، ثورات، حصار، تهجير، تخريب ولكن فوق كل هذا ما نعيشه منذ منتصف شهر آذار ٢٠٢٠ من انتشار لفيروس “كورونا” الذي لم يكن على البال ولا على الخاطر، شيء أكبر من قدرتنا على التخيل.
بالمدرسة كنا نستلم جدول الحصص، كل حصة ٤٥ دقيقة، مواضيع مختلفة؛ تاريخ وجغرافيا، فيزياء وكيمياء، أحياء، لغة عربية ولغة إنجليزية. كل معلم ومعلمة يفرغون ما لديهم علينا كطلبة ويخرجون. تعودت على هذا النمط من التفكير بأن الأشياء متفرقة ومجزأة. وأنا في المدرسة لم يخطر على بالي ولو لمرة بأن المواضيع يمكن أن تكون مترابطة؛ جغرافيا البلاد التي ندرسها نتيجة التاريخ المُسيطَر الذي يُدرس لنا. ما فقدته خلال السنين التي قضيتها في المدرسة هو التربة الثقافية والأرضية، التربة هي المكان الحاضن للجذور والنمو والتنوع والتجميع حيث كان ممكناً وبسهولة التحكم بعقلي، حيث لم يستطع عقلي أن يرى ما تراه عينيّ أو أن يقوم بربط ما يجري من أحداث في العالم مع بعضها البعض وكأن العالم مُجزأ.
ليست معرفتي هي المسيطر عليها وإنما طريقة تفكيري في الوصول إلى المعرفة هي المسيطر عليها، كل هذه الأحداث التي عشت لم أستطع الربط بينها أو حتى فهم ما يحدث في حينها، ولكن مع السنوات بدأت أدرك بأني أنساق بمشاعر الحالة والتي تنتهي بانتهاء دور الإعلام بالتحدث عنها، عدم ذكرها لا يعني انتهاء المصيبة ولكن أصبحت فكرة تقبلها والتعايش معها “نتعايش لأنها دخيلة علينا وليست نتاج طبيعي لإيقاع عيشنا” كواقع، وبما أنها بعيدة عني فأنا “بألف خير”، ومن ثم تعود وتجرفنا الحياة السريعة والمعاصرة إلى عالم الاستهلاك إلى أن يحدث حدث جديد فأدخل في نفس الدوامة من غير أن أشكل أي مناعة ذاتية أو تعلم ذاتي عمّا يدور حولي من أحداث.
مع بداية الحجر بسبب انتشار فيروس كورونا في منتصف شهر آذار ٢٠٢٠ قررت بأنّي لا أود بأن أعيش نفس الدوامة وألّا أكون ضحية الأخبار والإعلام وعدم الفهم والاستسلام للخوف، كنت ألاحظ نفسي تنجرف وراء الأخبار وبأني رهينة الإعلام الرسمي الذي أصبح مصدر المعلومة الرئيسية، بدأت أسأل نفسي كيف أصدق هذا المصدر الذي أنا دائما في حالة تشكيك لأخباره ومصادره والمستفيد منها. قد أكون أصبحت على دراية بأن قدرتي على فهم شامل لما يحدث في العالم في حينه أمر صعب، في الوضع الحالي يوجد فيروس كورونا ولكن هناك فيروسات أخرى مسيطرة على حياتنا، فيروسات على مستوى الفكر والأكل، عقولنا وأجسادنا معلولة بهذه الفيروسات. فكان لا بد من أن أدبر نفسي بما هو متاح، فأنا لا أريد البقاء فقط ولكن أيضاً أن أعيش بعافية.
بصحبة صديقنا ومعلمنا “منير فاشه” بدأنا بمجاورة “فيروسات فكرية” في تغميس عبر الإنترنت، كنا جميعاً نحاول أن نبتعد قدر الإمكان في حياتنا عن هذا الشكل من اللقاءات ولكن السياق الذي نعيشه فرضه علينا، ولأن التحادث مقدس كان لا بد لنا من أن نكمل نقاشاتنا، فلا أمل لنا بالبقاء وتجاوز هذه المحنة إلا بقربنا من بعض وبمشاركتنا لأفكارنا.
فكانت الأسئلة؛ كيف ممكن أن نبدأ نقاشنا؟ كيف لنا أن نتعلم بكرامة؟ سمحتُ لنفسي بأن أجرّب طرق متعددة لكيف نبدأ نقاشنا على الإنترنت، كنت أشعر بتلك الفترة بأننا في مرحلة تجريب بكل شيء، بأننا متسامحين مع أنفسنا، مساحة التجربة والتعلم من دون أحكام موجودة عند الجميع، العالم أجمع يعيش فترة جديدة عليه، ما نعرفه غير مفيد في الوضع الذي نعيشه، وهناك حالة من العطش والبحث عما يغذي في العمق، الجميع في نفس القارب والجميع يريد أن ينجو، العالم السريع والمادي توقف الآن ولكن أدمغتنا محشوة بفيروسات متعددة، فكيف نُكمل؟
قضينا ٢٤ ساعة على مدى ٣ أشهر نتناقش بموضوع الفيروسات الفكرية، في كل لقاء كنت أدرك بأن أقوى الفيروسات المسيطرة على عقولنا هي الكلمات، فهناك كلمات تحررنا أو تحبسنا أو تعطينا الأمل وأخرى نابعة من القلب وأخرى يفرزها العقل. كلمات القلب تُنعشني وتتسرب إلى باقي جسمي أما كلمات العقل تستقر هناك وتُقلق بالي. لطالما كنت أتضايق من كلمة “إنجاز”، ماذا أنجزت اليوم؟ ماذا أنجزت هذا العام؟ ولأن كلمة إنجاز مرتبطة بتوقعات ومهام فمخي يستمر بالعدّ وعمل الحسبة ليكون الإنجاز مساوٍ للمهام فإذا لم يكن مساوٍ كنت أشعر بخيبة الأمل أو أني “ملحوقة” وإذا كان الإنجاز أكثر فأشعر بنشوة العمل والانتصار والتي تنتهي بمجرد وضع قائمة المهام الجديدة. أصبحت أشعر براحة أكبر عند استخدامي لكلمات مثل سعي وبحث، في السعي كل جسمي يتحرك، ولا ينتهي عند نقطة معينة ولا أقيسه بمهام يجب أن أنجزها، في السعي أبواب تتفتح وأتجرأ على دخولها لأنني غير مرتبطة بقائمة مهام يجب أن أنجزها بوقت محدد، فأكون أنا حاكمة لذاتي. ولأن الحياة خلطة فقد أضطر إلى عمل خلطتي بالكلمات حسب السياق ولكن أنا التي أشكل معانيها.
ثلاث أسئلة كانت حاضرة معنا في مجاورتنا: ماذا أُحْسِن؟ وماذا أبحثُ عنه في حياتي؟ وماذا يكوّن رجلي الثابتة في الحياة؟
تذكرت وذكّرت نفسي بالفرق بين ما يكون ثابت بالنسبة لي وبين أن أكون متعصبة لمصدر ثباتي. مصدر ثباتي بالحياة هو ما يعطيني الحيوية، هو مرجعيتي عندما أتوه، بوصلتي عندما أبحث وهو دائم النمو والتغير والتشكل حسب ما أصل له في عملية السعي والبحث عن المعرفة والتعلم. بالنسبة لي أحب جداً أين أعيش في هذه البقعة من العالم (الأردن – بلاد الشام – جنوب غرب آسيا)، أعشق هواها وأكلها وطبيعتها وعلاقاتها وغروب الشمس فيها والقمر عند اكتماله، أجد نفسي دائمة البحث عمّا يشكل هويتي. ولدت لأب وأم من نفس العائلة وجدودي الأربعة من نفس العائلة أيضاً من أصول شرق أردنية، لم أكن يوماً في حالة صدام مع فكرة الهوية بكيف أعرّف عن نفسي عندما يطرح علي سؤال “من أين أنت؟” الإجابة سهلة وسريعة دائماً أنا من “الأردن”. لم أكن أدرك بأن الهوية هي ليست فقط المكان الجغرافي الضيق الذي أعيش فيه والذي حُدد بفعل التقسيم والاستعمار، هي ليست الحدود السياسة، ولكن هي امتدادي الثقافي والحضاري وما أشعر بأنه يشكلني، هي مجموعة (القصص والحكايات والشكل واسم العائلة ولون البشرة وطريقة الطبخ وووو) التي ورثتها عن أسلافي من دون أن أفكّر بها وأبحث في تاريخها وهي معرفتي التي أشكّلها وعلاقتي مع ذاتي والناس من حولي.
قد تبدو هذه الأسئلة سهلة ولكنها غير بسيطة، في عالم الاستهلاك من الصعب أن نكون في حالة قُرب من ذواتنا وأن نتعرف عليها. الحياة تكون أسرع وأقسى لأننا نركض دائماً فيصبح من الصعب أن نُعرّف أنفسنا بعيداً عن المؤسسات أو ما نركض من أجله. الركض يستهلك الكثير من الطاقة في وقت قصير “بهد الحيل” على المدى البعيد، ولكن المشي يُخزن الطاقة وينظم النفس ويجعلنا نرى ما حولنا. استصعبت الإجابة على هذه الأسئلة وما زلت أبحث عن إجابات، ولكن لا يوجد إجابة واحدة، هناك إجابات متعددة لأن لدي اهتمامات متعددة ولأني كائن حي يتنفس ويتعلم فأنا في مرحلة نمو مستمر وتغيير وتشكيل وبناء لا تتوقف. تخلصي من هذه الفيروسات هو في سبيل بحثي عن ماذا يسعدني وماذا يعطي معنى لحياتي، كيف أشعر عندما استيقظ كل صباح ويجعلني أشعر بقيمة نفسي وماذا تفعل ويعطيني السعادة وراحة البال.
فيروس أن العالم الحديث الذي نعيش فيه قوي ولا يمكن أن يُهزعرشه. بعد شهر من الإغلاق أثبت اقتصاد هذا العالم الحديث بأنه وهم وهش ولم يستطع أن يصمد أمام فيروس غير مرئي، وبدأت العديد من الشركات الكبرى بالتساقط. رأس المال لا يشارك الربح بل يشارك “الملاليم” فقط، ولكن عند الخسارة فالجميع يجب أن يتشارك. أين ذهبت الأموال التي جُمعت خلال سنوات سابقة من العمل؟ لماذا لا يتم مشاركتها الآن؟ ذكّرنا هذا الفيروس بأن أهم أساسيات بقائنا هو الغذاء، بعد ٤ أيام من الإغلاق التام في الأردن كان الهم الأكبر والذي جمع الناس هو الأكل، كيف نحصل عليه؟ أصبح المزارع يتخبط بأين يذهب بمحاصيله بسبب بُعد من يُعتبروا أصحاب القرار عن مصادر الحياة وجهلهم بأن الأرض والنباتات لا تنتظر ولا تعرف الحَجر. وذكّرنا هذا الفيروس أيضاً بأن التعليم الرسمي لا يسمن ولا يغني عن جوع وأن البدلات المنشية لن تنفع، ولكن ما ينفعني هو علاقتي بأرضي وأهلي وجيراني وعافيتي، أمور لا تحتاج إلى نقود وإنما إلى وقت وجهد ونفس طويل. عشت هذا النفس الطويل خلال الحَجر مع والدتي في حديقة البيت، حيث كنا نقضي يومياً حوالي ٤-٥ ساعات نزرع، أصبح جدولنا اليومي بين الحديقة والمطبخ، لم نشعر بالحَجر، الوقت كان يمضي سريعاً، انتبهنا إلى عافيتنا الجسدية والنفسية، وبنينا علاقة جميلة بيننا لدرجة أن أمي كانت تحكي للجميع، بأن أجمل أيام هي أيام الحَجر.
خلال لقاءات المجاورة تحدثنا كثيراً عن الطبيعة كمصدر للتعافي، وبسبب الحجر كانت حركتي محدودة فقط داخل المدينة فكان الاشتياق إلى الطبيعة الغير مخرَّبة والأرض أكثر. بداية الصيف هو بداية حصاد القمح بالأردن وباقي منطقة بلاد الشام، فنحن معجونون بالقمح وزيت الزيتون. بترتيب إلهي كان أول مشوار لي بعد فك الحجر لخارج المدينة هو لحصاد القمح الذي نثروه أصدقاؤنا لمى وربيع من “ذكرى” في خريف العام الماضي. من العقول انتقلت للحقول، من التفاعل من وراء الشاشة للتفاعل مع مجموعة أهل تغميس، أكملنا نقاشنا بالفيروسات ولكن هذه المرة نقاشنا كان مع فِعل؛ فالمعرفة فعل كما يقول منير.
هذه كانت أول مرة أحصد فيها القمح، تعرفت على البيدر والدرّاسة والتعب الذي يأتي من الحصيدة. أسئلة كثيرة حول من يعتبر “التعيّب” ومن لا؟ كيف تحول التفكير عن العمل خلف مكتب هو العمل المُتعب وكيف أصبح العمل بالحقل غير مرئي وبالتالي غير مُقدرّ؟ أرضنا خصبة فلماذا لا نزرعها؟ كيف نشفى من كل هذا التخريب على مستوى العقول والبذور؟
وجه الشبه بين حقول القمح والميلبا (Milpa) يكمن بأنهما مصدرا عيشتنا كبشر ولكن بفعل التخريب في العقول والبذور لم نعد ندرك ذلك وتم استبدالهما بمصادر غير حقيقية ضارة. في ٢٠١٥ تعرفت على “يولندا” خلال زيارتي التعلمية إلى المكسيك، منطقة وهاكا بالتحديد حيث يعيش أكبر عدد من السكان الأصليين بثقافاتهم المتعددة.
من خلال “يولندا” وعائلتها تعرفت على الميلبا (حقول تضم مزروعات الذرة والفاصوليا والكوسا/القرع في آن واحد -الأخوات الثلاث- حيث يتم وضع بذور هذه المحاصيل مع بعض في نفس الحفرة بحيث تنمو الفاصوليا على ساق الذرة وتعمل أوراق الكوسا على تظليل التربة وابقائها رطبة وهذه تعتبر أهم المحاصيل الغذائية في المكسيك) حيث عشت معها وعملت في حقولها، ما تعانيه يولندا من صعوبة اقناع أولادها للعمل بالأرض وتعثر بيع أكواز الذرة الطبيعية لأن شكلها غير منتظم وليست صفراء براقة وضيق الحال وقلة المياه وسيطرة رأس المال على أشكال الزراعة الحديثة المُخربة هو نفس ما نعانيه هنا بالأردن مع زراعتنا للقمح، فالاختلاف هو ليس ذرة أو قمح أو أرز والتي هي محاصيل تشاركيه في زراعتها وحصادها، فيروس تخريب الأكل الذي يحدث لغذائنا عالمي. من خرّب زراعة القمح في بلادنا؟ ومن خرّب زراعة الذرة في المكسيك؟ الإجابة واحدة … الاستعمار بهدف السيطرة وسلب الإرادة، من سيطر على العقول سيطر على الحقول.
ولكن يبقى جمال العلاقات في هذه الحقول، فمهما خرّبوا لا يستطيعون أن يخرّبوا جمال العلاقات التي تحدث في هذه الحقول. العلاقة مع التربة والكائنات الحية التي تعيش فيها والنباتات والناس وجيران الأرض، هذا ما يبقى عصيّاً على التخريب ويحدث بشكل تلقائي وعفوي وأسرع مما نتخيل بمجرد أن نبدأ العمل بالأرض. في المكسيك لي عائلة بسبب “الميلبا” وفي الأردن امتدت صداقاتي وأسعى الآن إلى زراعة أرض متروكة للعائلة بالقمح لهذا الموسم. بالنسبة لي الطبيعة مرتبطة بالعافية، كنت بحاجة للتعافي بوجودي بالأرض، شعور العافية أشعر فيه بشكل كبير وأنا بعيدة عن المدينة؛ مع الهواء والناس والأرض والخلطة جميعها.
طُلب منا وما زال يطلب منا بأن نتباعد اجتماعياً لكي نسلم من الإصابة بكورونا، ولكن كورونا سمحت لي بأن أعود إلى جذوري ومصادر التعلم لكل ما هو حي، أهم ما في المجاورة هو التقارب والتعامل مع الحياة، فالفيروس هنا ليس كورونا ولكن فيروس التعليم الأكاديمي المعتمد على البعد عن مصادر الحياة والخوف من كل ما هو مختلف. بدأت أدرك كيف أتعامل مع الحياة وما أعيش من ظروف وأحداث، أُشكل مناعتي الذاتية وأبني تعلمي الذاتي؛ التناقش والخروج من العقول والعودة إلى الحقول هي خلطتي في طريقي للتعافي من هذه الفيروسات. أنا بنت المدينة، ولدت وعشت فيها ولكن حالياً لا أستطيع أن انسلخ تماماً عنها ولكن بدأت أعرف ما يناسبني فيها وما أضيف لحياتي بعيداً عنها، هذه التجارب ساعدتني بأن أبدأ بأن ” أضع إصبعي على الوجع”.
ريف فاخوري